المختطف مجهول المصير ابوفادي محمد عباس المراكشي


 المختطف مجهول المصير ابوفادي محمد عباس المراكشي:

عاد إلى المغرب بجواز سفر مزوّر سنة 1976، واتُّهم محمد عباس المراكشي بمحاولة اغتيال ياسر عرفات. مات في سجن سري بالقرب من ورزازات.

المصير المأساوي لأبي فادي – لُبنى برنيشي


حياة محطَّمة، وأسرة ممزقة. عاش محمد عباس المراكشي، الملقّب بأبي فادي، في الظل ليموت في المجهول. لم يكن هناك من يدفنه أو يبكيه، سوى سجّانه الذي تولّى وضعه تحت التراب. إنّ قضية محمد عباس المراكشي يجب أن تُسجَّل في سجلّات الأخطاء الفادحة لجهاز الشرطة. فهي بمفردها تجسّد تعسّف أربعين سنة من الاعتقال، والاختطاف، والحجز، والتعذيب، فيما يُعرف بـ “سنوات الرصاص”.


إنّ قصة أبي فادي هي حكاية قدر مأساوي. وُلد هذا الشاب المغربي سنة 1950 في بيروت من أم لبنانية وأب مغربي، وكان يعيش الحياة بكل شغف. كان يضع أهدافًا أمامه ويسعى لتحقيقها. دفعتْه طموحاته منذ سنّ مبكرة إلى الهجرة إلى المملكة العربية السعودية. هناك، عمل لحسابه الخاص مع شركة سعودية. سارت أعماله على ما يرام حتى وقع خلاف بينه وبين شريكه السعودي، الذي صادر جواز سفره المغربي، وهي ممارسة شائعة في ذلك البلد حيث يُعتبر جواز السفر ضمانة. رفض أبو فادي ذلك الوضع، لكنه وجد نفسه عاجزًا. أراد مغادرة تلك الأرض، التي أصبحت فجأة غير مضيافة، بأي ثمن. أملته حماسة الشباب أن يستعير جواز سفر صديقه اللبناني ليعود إلى بلده الأم ويلتقي بعائلته. في سنة 1976 قرّر السفر إلى المغرب. قرار كان مصيريًا.


اكتشفت شرطة الحدود المغربية أن وثيقة سفره مزوّرة. لم توقفه حينها، لكنها أبلغت الجهات الأمنية المعنية. استقر محمد عباس المراكشي في فندق بالرباط دون أن يدري أنه تحت المراقبة. لأسابيع عاش حياة هادئة، إلى أن أُلقي القبض عليه صباح أحد الأيام بالقرب من فندق “باليما”. التهمة؟ محاولة اغتيال ياسر عرفات. كان رئيس منظمة التحرير الفلسطينية من المقرر أن يزور الرباط في سبتمبر 1976، تاريخ انضمام المنظمة كعضو كامل في جامعة الدول العربية.


زُجّ بأبي فادي في مركز الاعتقال سيّئ السمعة “درب مولاي الشريف” بالدار البيضاء. وكغيره من المعتقلين السياسيين آنذاك، تعرّض لجلسات استجواب قاسية وتعذيب وحشي قبل أن يُنقل إلى السجون السرية في أگدز ثم قلعة مگونة. فقدت أسرته الاتصال به، فأبلغت منظمات دولية، منها الصليب الأحمر، لكن أحدًا لم يكشف لغز اختفائه. لم يُعرف مصيره إلا مع وصول الملك محمد السادس وتنفّس المغرب نسيم الحرية.


مع إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة في يناير 2004، برئاسة إدريس بنزكري والمكلّفة بطي صفحة انتهاكات حقوق الإنسان، عاد ملف “الأجنبي” إلى الواجهة. كانت الهيئة قد حددت هوية 16 من وفيات معتقلي قلعة مگونة. ورغم عدم تلقيها أي طلب من أقاربه، أرادت أن تكشف غموض قضية “الأجنبي”. الصحفي عبدو ناصر بنو هاشم، وهو معتقل سابق بالقلعة، تحدّث لأول مرة عن أجنبي بلهجة مشرقية قوية يُدعى أبو فادي. بعد التحقيق وسماع الشهادات، علمت الهيئة أنه بعد الإفراج عن مجموعة بنو هاشم سنة 1991، بقي ثلاثة سجناء: ليبي يُدعى البهلول، مغربي من مكناس يُدعى العلوي (سُجن لمحاولة سرقة طائرة)، ولبناني يُدعى أبو فادي. نُقل الثلاثة إلى حامية القوات المساعدة المكلفة بحراسة سد المنصور الذهبي بين ورزازات وأگدز.


في أبريل 1992، أُفرج عن البهلول والعلوي. بقي أبو فادي وحيدًا، ففقد إرادة المقاومة. أطفأت السنوات الطويلة بصيص أمله. بعد 16 عامًا من الاحتجاز في ظروف غير إنسانية، استسلم للموت. في 23 يوليو 1992، عثر السجّان على جثته النحيلة بلا حياة فوق أغطية متسخة وسط الجرذان، أصدقائه الوحيدين.


الأجنبي الذي عُرف باسم أبي فادي بات له اسم حقيقي: محمد بن أحمد عباس المراكشي. للأسف، توفي والداه قبل أن يعرفا الحقيقة. لكن شقيقته علياء، المقيمة في ألمانيا، وشقيقه إبراهيم، المقيم في لبنان، قدما إلى المغرب في 11 أبريل 2006 لزيارة قبره. رافقتهما لجنة من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان إلى مكان دفنه، بالقرب من آخر مكان احتُجز فيه. عبّرت العائلة عن رغبتها في نقل رفاته إلى لبنان، لكن بعد نقاش طويل ومحتدم، اقتنعت بتركه في المغرب. دُفن عباس المراكشي في قلعة مگونة بجوار 16 ضحية أخرى، لتبقى قبورهم شاهدًا على استبداد نظام بوليسي امتد لأربعة عقود.


كما أعلن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان براءة عباس المراكشي، إذ تبيّن أنه لم يكن ينوي اغتيال ياسر عرفات، ولم يكن مهتمًا بالسياسة أصلاً، وأن الاتهام لم يكن سوى أكاذيب ملفقة. فهل كانت أصوله اللبنانية وسفره بجواز مزوّر هي ما عزز الشبهة؟ أسئلة تبقى بلا جواب. المؤكد أن لا شيء يبرر هذا السجن الطويل، فضلًا عن كونه بلا محاكمة. لو كان حيًّا، لاحتفل هذه السنة بعيد ميلاده السادس والخمسين، وربما كان له أبناء وأحفاد يفتقدونه.


إن الجريمة التي ارتُكبت بحق عباس المراكشي لا يمكن أن تبقى بلا عقاب أو أن تسقط في طي النسيان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المجلس الجهوي لهيئة الطبيبات و الأطباء يفتتح أول مقر خاص به

تغزوت الحسيمة: 4700 نسمة بين جبال الريف وواقع صحي مُر

للكاتب المغربي محمد خالد الشفقي ،صدور الطبعة الثانية من كتاب:"محمد السادس و نهضة المغرب"